لا شئ سوى كلماته تتردد في أذني كل حين ..
" فإن فعلتَ ما أريد
إن يسألوكَ مرةً عن دمي الشهيد
وهل تُرى
منحتني "الوجودَ" كي تسلبني "الوجود"
فقل لهم : قد ماتَ غير حاقدٍ علي
وتلك الكأس -التي كانت عظامها جمجمتَه -
وئيقة الغفرانِ لي
" يا قاتلي ..
إني صفحتُ عنك
في اللحظة التي استرَحتَ بعدها مني ..
استرحتُ منك .. "
"
لم أعتد على الكتابة وسط تلك المواقف .. لم أعتد أن أهيج المشاعر .. لا أحب أن أزيد من المأساة بحديثي المتكرر أنها مأساة .. فالجميع مسبقاً يعرف حجم الكارثة .. والجميع حولي يقرأ في كل مكان حديثاً حزيناً مُبكياً .. لا داعي لأن أكتب أو أنقل أو أفعل أي شئ .. تكفيني المراقية كل حين وآخر .. وتكفي دموعي لتنهال صامتة دون كلمة حزن واحدة ..
لم أصل بعد إلى نقطة الإنهيار .. ولا أعتقد أني أصل إليها في الوقت المناسب .. فعادة أصل متأخرة .. فدائماً أكون آخر من يبكي وآخر من يستشعر بحق وقع الأحزان .. تكون الصدمة كافية لأن أُنكر وقوع أي شئ .. أقف متبلدة المشاعر أرى دموع من حولي وهي تزيد من دفاعاتي .. أبدو صلبة .. صامدة .. لكنه في الحقيقة فراغ هش غير حقيقي .. سرعان ما ينهار حين يبدأ الجميع في الإمساك بتلابيب المشاعر المحطمة واستعادة قواهم العاطفية !
" لأن من يقولُ لا
لا يرتوي إلا من الدموع
فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق
فسوف تنتهونَ مثله غداً
وقبلوا زوجاتكم - هنا - على قارعة الطريق
فسوف تنتهون ها هنا .. غداً
فالإنحناءُ مر
والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى
فقبلوا زوجاتكم .. إني تركتُ زوجتي بلا وداع
وإن رأيتم طفلي الذي تركتهً على ذراعها
بلا ذراع
فعلموه الإنحناء
علموه الإنحناء "
ربما لو كنتَ حياً سيدي النبيل لعرفت كيف عاشت كلماتك حية .. لتُحفر في أذهان محبيك .. ليوُجد الآن الآلاف .. بل الملايين .. ممن يقولون " لا " في وجه من يرددونها كالحمقى " نعم " .. !
الآن سيدي النبيل ليس هناك ثائر مشنوق واحد .. بل الكثيرون ممن يحلمون بعالم سعيد .. ممن انتهو في مجازر قياصرة الصقيع .. ممن تركوا أولادهم وأزواجهم على قارعة الطريق بلا وداع .. ممن كانت وصيتهم ألا يتعلموا أبداً الإنحناء ..
رفعوها عالية : لا تصالح .. وهاهي الأقنعة تتساقط كل حين وآخر عن وجوه تدّعي كونها المُنقذة .. وها هم قياصرة جُدد .. يحاربون الأمل .. ويقطعون الشجر
لكنهم لا يعلمون .. أنه حين يأتي الربيع والعامُ عامُ جوع .. فلن يجدوا في الفروع نكهة الثمر .. !
سامحني سيدي النبيل فلا أجد ما يمكنني فعله سوى أن أكتبَ إليك .. فكم أتمنى لو دافعت .. لو صرخت عالياً .. علّي أمنع قرطاجة العذراء من أن تحترق .. لكنها أمي .. تخاف على شبابي أن يضيع بأيدي اعتادت اللهو بالدماء .. وتخاف على قلبها عضة الثكل .. وتخاف على أحلامها الوردية أن تُدفن معي ملفوفة في علم بلادي .. لتودّعني بدموعها السوداء
سيدي الآن تذكرتك وكلماتك توجعني .. وأنين القلوب الموجوعة من حولي يعلو ..
ومرة أخرى أسمعك تردد
" لا تحلموا بعالمٍ سعيد
فخلف كلَّ قيصرٍ يموت : قيصرُ جديد
وخلف كل ثائر يموت : أحزانٌ بلا جدوى
ودمعةٌ سدى ! "
أعرفُ أنك تسمعهم .. ها هم قد أعلنوا الحداد ..
ولا يزال الجلاد يضحك .. والمزيد من الدماء تُراق
تسلم ايدك ...
ردحذف