أشعر أنّي أفقدني .. ببطء
صوت صديقة يسرد تفاصيل لا أذكرها عن نفسي .. يتوقف عقلي عن الدوار ويصمت للحظة .. أهي حقاً تحكي عني؟
أرفض الفكرة للوهلة الأولى وأتجاهل شعوري بالغربة .. هي ليست أنا .. لو كانت أنا لأحببت ظلي الذي تلقيه الشمس على الأرض .. لصرت صديقتي المفضلة .. لتمنيت لو كنت مثلي .. لكنها حتماً ليست أنا .. داخلي ممتلئ بالفوضى وأركاني مهدّمة .. لست لامعة وليست خطواتي ثابتة .. أبكي قهراً وكرهاً وظلماً وألماً .. ثم أضحك عبثاً .. يملّني الجميع ويكرهون فتوري .. يكرهونني في بعض الأحيان أيضاً ..
عاد عقلي إلى الدوار .. أسمعها تتحدث بحماس .. لو لم أصادق صوتها لعشر سنين متتالية لشككت في أنها هي الأخرى ليست هي .. لكنها صديقة الطفولة التي ألفتني وألفتها .. عرفتني قبل أن أعرف نفسي .. لكنه عقلي يأبى أن يصدقها .. ينكر وجودي .. هو يكره الضوء الذي يملأ تلك الذكريات لأنه اعتاد الظلمة .. وهي تنكر الظلمة لأنها موقنة من وجود ضوء ما هنا أو هناك بداخلي .. تخبرني بحب أن التغيير وقتيّ وبأني سأعود بسهولة إلى تلك التي عرَفَتها لأنها لم تمت بعد .. فقط إن بحثتُ عنها بعناية .. ببعض الإيمان بوجودها .. والكثير الكثير من الصبر.
ثم تصمت .. فأشكرها على وجودها الدافئ .. وأعدها بأن أبحث عن خيالها .. تلك التي سكنتني لوهلة .. ورحلت!
----
عزيزي فلان ..
يسرني أن أخبرك بأني اجتزت المرحلة الصعبة .. انتهت المآسي وانفض المدعويين إلى مأتم آخر لا يمت لي بصلة .. وفقدت أنا الأخرى صلتي بالعالم .. لم أعد أهتم بكل ذلك العبث النفسي عن الحياة والتغيير وتقلبات القدر .. الحقائق والبشر وكل تلك الفوضى دائرة واحدة بلا مركز .. انحسر العالم كله في كتبي وأوراقي وأزماتي النفسية الحادة وتلك الوحدة المألوفة التي صارت مستحبة .. ألازلت أتألم؟ .. أحياناً با عزيزي يجتاز الألم دفاعاتك وينقض عليك فجأة رغم توخيك الحذر ..رغم ذخيرتك المحترمة من اللامبالاه والبرود .. لكن لا تقلق .. تعوّدت أن أجد حلولاً لأزماتي وحدي حين أفشل في حلّها مع الآخرين .. وحين أصل إلى تلك النقطة ألقيهم جميعاً في درج مهجور لا تصل إليه يدي .. أعرف أني أبدو غامضة لكن لا تكترث للأمر .. سيتوقف الغموض عن استفزازك بعد عدة أيام لتعود الحياة طبيعية وكأن شيئاً لم يحدث .. هكذا يسير الأمر .. عليك أن تعتاده حتى لا ترهق عقلك في التفكير .. وعليك ألا تكترث حتى تسير الأمور على ما يرام ..
لا زلت أفكر في طريقة ما للحصول على قطة .. رغم أنها لن تعرف كيف تتحدث بلا انقطاع لتؤنس وحدتي .. هي فقط ستثير حنقي لأنها ستبدو أسعد وأكثر راحة مني .. لكني أريدها على كل حال ..
ستصلك رسائلي بين الحين والآخر .. وسأشعر بالراحة لأن أحداً في هذا العالم لا يزال يقتطع من وقته عدة دقائق ليقرأ لي .. شعور لطيف سيعينني على يوم سئ أو أزمة ما أو شعور خانق بأني أتلاشى تدريجياً .. أأخبرتك كيف يكون ذلك؟ أن تشعر بأنك تفقد أجزاءك ببطء؟ أن تشعر بوخز روحك وهي تُنتزع من أناملك يوماً بعد الآخر؟
لا .. لا داعي لكل ذلك اليأس وكل تلك المشاعر المحطمة .. لن أثقلك أكثر من ذلك في رسالتي الأولى ..
لنكتفي بجملة البداية .. يسرني أن أخبرك بأني اجتزت المرحلة الصعبة .. وبأني على أتم الإستعداد لأكمل المهمة ..
عزيزي فلان .. شكراً لأنك كنت هنا.