2013-07-26

تواصل..



ينزوي في أحد أركان غرفته المظلمة.. ينفث دخان سيجارته المشتعلة في الفراغ المتراكم فوق رأسه.. يختفي وراء نظارته التي تعكس صوراً وحروفاً مرسومة على شاشة صماء.. يقوم بأعماله المعتادة.. أو عمله الوحيد المعتاد على تلك الآلة.. "التواصل".

هكذا يخدع نفسه كل مرة يشعر فيها بالوحدة تحيط به.. حين يقضي وقته كلّه بصحبة نفسه التي ملّ منها.. ينظر إلى ذلك  الصندوق الإلكتروني الفارغ الذي يحتوى على عبارة "What's on your mind today".. فيفكر قليلاً.. يملأ رئته السوداء ببعض دخان سيجارته.. ينظر إلى إنعكاس عينيه المرهقة على شاشة الجهاز فيكتب.. " تحذير: القعدة مع نفسك تدمر الصحة وتسبب الوفاة".. يضغط على ذلك الزر الأزرق.. ذلك المفتاح السحري الذي سيوصل صوته الذي اعتاد فقط أن يسمعه في رأسه إلى العالم.. حتى ولو كان صوتاً فارغاً في فضاءٍ مكتوب.

تمضي لحظات قصار قبل أن يبدأ التفاعل على جملته تلك.. الكثير من ذلك الإبهام المرتفع إلى الأعلى.. أحدهم يقول بأسى "معاك حق والله" وآخرٌ يكتفي بالسخرية قائلاً "أمال القعدة مع أبوك تعمل إيه؟ :D" بينما تمر تلك الجملة أمام عين آخر فيقرأها دون اهتمام.. ويكتفي بمروره الصامت.

يمتلك أكثر من حساب على أكثر من موقع للتواصل الذي أسموه خطئاً أو سهواً ربما بالإجتماعي.. يسخر بمرارة من زيف كل الحمقى المتواجدون في كل منعطف إلكتروني.. يقرأ اقتباساتهم وأوقوالهم وآياتهم القرآنية التي يزينون بها حساباتهم.. يعجب من تلك الصورة التي يعشقون رسمها بكل دقة.. تلك التي تناقض الكثير من حقيقتهم.. يبتسم أحدهم في وجهك ويضمر لك ما لا تحب.. ثم يعود ليذكر نفسه هنا بأن من يتلونون بأكثر من وجه لهم مكان مخصص في الجحيم.. يكاد يشعر من فرط مثاليتهم الحمقاء بالغثيان.. ينفث سيجارته العصبية في الفراغ المتراكم فوق رأسه.. يبدد كل الحقد الذي يسكنه لكل أولئك الحمقى وكأنه يحرقهم واحداً تلو الآخر في جحيم من نوعه الخاص.. جحيم صنعه هو لنفسه.. له وحده.

يتعثر صدفةً في طيفها الإلكتروني.. يتأمل كثيراً صورتها الصغيرة تلك.. يتساءل لم تصر دائماً على قتل فراشاتها في النهاية.. ومالذي يعجبها في ذلك الداعية الذي تملأ باقتباساته جنبات طيفها الفارغ.. يتأملها كثيراً حتى أنه يغفو أحياناً أمامها.. لكنه يستيقظ دائماً ليجد ضوءها الأخضر قد تبدد في غفلة منه.. ينتظر لفترة أطول حتى تعود مرة أخرى فيلقي التحية.. أو أن يجد ذريعة ما ليسألها عن كتابٍ ذكرت ذات مرة أنه أعجبها.. يبتسم مرة واحدة فقط حين تدغدغ تلك الذبذبات اإلكترونية شاشته الصغيرة حاملة ردها.. ابتساماتها الدائرية الصفراء.. ومزاحها الهزلي الجاد.

ينزوي في أحد أركان غرفته المظلمة.. ينفث دخان سيجارته في الفراغ المتراكم فوق رأسه.. يختفي وراء نظارته التي تعكس حروفاً مرسومة على شاشة صماء.. يتساءل عن حياته ماذا يفعل بها.. يتمنى لو يسحق تلك الساعة المزعجة التي لا تكف عن الضجيج .. ذلك الضجيج الذي يصدره حركة عقربها البائس الذي يحمل إنذاراً من القادم وندماً على ما فات.. تدور أسئلته في فلك واحد لا يتغير.. ينظر إلى جحيمه الإلكتروني بارتباك.. يعرف أنه ليس تلك القشرة الصدئة ولا تلك الكلمات.. لا يعرف بالتحديد أهو أكثر من ذلك أم أنه ينحدر إلى ما هو أقل.. مجرد لاشئ.. لاشئ يحاول جاهداً أن يصير شيئاً في فراغ ليس موجوداً من الأساس.. يضحك من فلسفته التي لا تصيب بلعنتها أحداً سواه..
 يرى أحد الحمقى يكتب "ولازلت لا شئ في منظومة الخلق.." يتأفف.. ذلك الوغد فتح غطاء جمجمته وسرق أفكاره.. لكنه سرعان ما أدرك أن تلك هي الحقيقة.. نحن متشابهون حد الملل.. نحن في النهاية نملأ ثقوبنا بالطريقة نفسها.. بالتكرار المقيت نفسه يشعل سيجارته العصبية.. يضغط لايك لا تقل نفاقاً عن ابتسامته التي يرسمها على وجهه كل صباح.. يذهب إلى حسابه الخاص.. يغير صورته.. يقتبس بعض الكلمات وينظر إلى طيفها الإلكتروني لبرهة.. ثم يغلق كل شئ..
 يعم الظلام.. ولوهلة تبدو الوحدة مريحة إلى حد كبير..

يخلو عقله من كل شئ.. هو فقط صوتٌ مزعجٌ يردد أسئلته الوجودية نفسها.. يحاول أن يتذكرها كي يهدأ فتزداد الأسئلة.. فيكتفي حينها بأن يملأ الفراغ المتراكم فوق رأسه بدخانه وأسئلته المحترقة..


قد يبدو في لحظاته تلك هادئاً.. لكنه في كل مرة يستلقي على سريره في محاولة للنوم.. يتململ كثيراً قبل أن يغلبه الإرهاق فينام.. لأن نفسه -تلك التي تسكن جسده- لا يبدو أنها ستهدأ.. أبداً.

.
.
.
.

هناك 3 تعليقات:



  1. قد يبدو في لحظاته تلك هادئاً.. لكنه في كل مرة يستلقي على سريره في محاولة للنوم.. يتململ كثيراً قبل أن يغلبه الإرهاق فينام.. لأن نفسه -تلك التي تسكن جسده- لا يبدو أنها ستهدأ.. أبداً.

    :(

    ردحذف
    الردود
    1. هتهدأ إن شاء الله بس متزعليش :)

      حذف
  2. . نحن متشابهون حد الملل.. نحن في النهاية نملأ ثقوبنا بالطريقة نفسها..

    ردحذف

:)

This title was intentionally left blank.

صديقي الأزرق الصغير، ألم تتلاشى بعد؟ أخبرني كيف كان نهارُك بعد تلك الليلة المضنية؟ ألا تزال ترفع عينيك إلى السماء و تصرخ بغضب؟ أعرف....