أرسل إليكَ خطابي هذا عشان أحكيلك آخر الأخبار، التي تعرف نصفها مسبقاً..
أنا هنا، في مكانٍ ما على وجه الأرض يشبه غيره من الأماكن، الألوان القاتمة نفسها، والشعور المستقر بعدم الإنتماء، أعرف أنك ستخبرني أن الأماكن لا تتشابه أبداً، وحدها النفس تحمل العيون الزجاجية التي ترى التشابه ولا تقو على إدراك الإختلاف، لكني سأحاول إصلاح الأمر وأسوق إليك الخبر السعيد، بقيت بنام من غير كوابيس، وبنام كتير كمان، جدّي رحمه الله كان صالحاً يقرأ القرآن بانتظام ويصلّي الفجر يومياً، وحكت لي أمي كثيراً عن الملائكة، والأطياف الطيبة التي تحرس هذا المكان بالذات. هي بركة الحاج أحمد، كما يردد الجميع.
المهم، أنا هنا، والجميع بقلوبهم الباردة هناك، منشغلين بأعمالهم التي لا تنتهي، أما الحب فهو يجد مساحةَ رحبة وقاعد ومربع في قلوب كل من حولي هنا، يظهر ذلك في نظراتهم، ابتساماتهم، وأطباق الطعام الممتلئة بكل ما هو شهيّ، وبسيط.
إن شكوت لك الآن نسيانِهم لي ستوبخني، فلديّ ما يكفي من الإهتمام هنا، دون الحاجة إلى كل من يصرون على البقاء هناك.
أتعرف؟ أحياناً يهمس باسمي، منادياً، فيختزل المسافات بيننا، ويهدم كل الأسوار التي أجاهد في بناءها كي لا يصل إليّ، في لحظة، فأشعر بالدفء، والتهديد في آنِ واحد. لماذا لا يتعلّم الجميعُ منه أبسط سُبل الوصال؟
ذلك الوصال الذي صار عصياً، وكلّت يداي من التشبث بأطراف الخيط الذي يترهل يوماً بعد الآخر، بيننا.
أراك الآن تضحك مني، تظن أنها فترة وهتعدي، سأعود إلى ما كنت عليه بعد عدةِ أيامٍ أنتهي فيها من النحيب ورثاء نفسي والسخط على العالم، وربما تكون على حق، لكنّ الصدأ الذي تتركه قطرات المطر على القلوب العاريةِ من الدفء يسمح لها بالتفتت، تدريجياً، وأشعر أني يوماً ما سأستيقظِ بنصف قلب، عاجز، من فرط التآكُل.
على كلٍ لا تهتم، أخبرني كيف حال حبيبتك؟ ألا تزال تصنع لك دواءاً من عناقيد العنب والريحان؟
أخبرها بان أسطورة السعادة الأبدية لن تكتمل، ليس على هذه الأرض، فالأطفال صاروا غريبين في طفولتهم، الرجال صاروا يبحثون عن سبلٍ مريحةٍ لكسب الرزق، والزوجات صرن يقاومن نقص الحب والهرم.
خلقنا الله لنتدرّب على الفقد، منح أجسادنا قدرةً محدودةً على التحمل، وترك أرواحنا لتجاهد حتى تصل إلى منافذ النور، فتطمئن.
أتعرف أني أحياناً أتساءل لم يسلبنا الله بعد العطاء؟ ويمنع عنا حين نطلب؟ ويتركنا لنتساءل عن السبب، يتركنا للتشتت، والتيه، ثم نستمر في ترديد أنه رحيم غفورٌ مجيب، دون إيمانٍ فعليّ برحمته، أو غفرانه؟
سأفجر رأسي عمّا قريب، وأرسل لكَ دعوةً لتشهد الإحتفال.
اه صحيح، يزداد شحوبُ وجهه، وصارت عينُه إلى اللونِ الأصفر عوضاً عن الأخضر، لكنّه يزداد حناناً، وذلك يكفي، أما عنّ ذلك الطفل الصغير، فقد وقف حائراً حين رآه يتألم، أخذ يواسيه بلغته الطفولية قائلاً "علش" ثم انفجر باكياً، لأجله.
بينما وقف الجميع يبكون الرحمة التي وضعها الخالق في فطرتهِ التي لم تتغير بعد.
أتعرف أني أشكو إليهِ كثيراً؟ أخبره بأنهم ينصرفون عنّي وبقلبي وحدة، ثم أطلب منه باكية ألا يعلّق قلبي بأحدٍ سواه، أشعر أحياناً أن حائطاً صلباً يقف بين صوتي وبينه، وأذكر يوماً كانت الحمّى تحرق رأسي فدعوت، وسمعت صدى صوتي يتردد في سبع سماواتٍ عاليه، وأكاد أقسم أني سمعته ينادي.
أتظن أنه يسمعني؟ وبأن منعهُ لما اشتاقت نفسي إليهِ رحمة؟ فلربما كان العطاءُ بلاءا.
عزيزي فسدق، شكراً لأنك كنت هنا، ولأنك أنصت إلى حديثي المشتت، وكلّفت نفسك عناء الوصل بين معانيه، شكراً على كلِ حال لأنك تحمّلت كل ذلك الهري الذي كان يمكن اختصاره بجملة "أنا زعلانة على فكرة" التي لم أتمكن أبداً من إلقائها في وجه الجميع.
على كلٍ، إيمان بتسلّم عليك،
تصبح على خير بقى وكده.
ضحى،
مرسلة إليك من أرض الملل.