تخبرني أمي دائماً، أن صلاة الفجر بركة، وحكت لي قديماً أن جدّي كان يحرص على تلك الصلاة حتى أنهم كانوا يسمعون دق الملائكة الخفيف على نوافذهم ليستيقظوا، وأكد لي خالي ذات مرّة تلك القصّة، حتى أن ابنته أخبرتني أنها لم تكن تصدق حتى سمعت مع الأذان صوت طرقٍ سريع خفيف، على كل نوافذ المنزل دفعة واحدة، حتى أنها أصابها الخوف حين صار ذلك الأمر يتكرر كلّ ليلة، في الوقت نفسه..
حكت أمي لي كثيراً عن لطف الله الخفيّ، عن البركة والملائكة، عن جدّها الطويل ذو الوجه الأبيض، الأنف الدقيق والعيون العميقة الخضراء، حكت لي عن موته، وكيف أن أهل القرية من كانوا يسكنون على مقربة من المدافن شاهدوا نوراً فوق قبره، تلك القصة التي تداولتها الأسماع حتى صارت محض خرافة، أو أسطورة..
عادة ما تحكي لي أمي عن ذلك العالم الخفي، بما تملكه من معرفة ضحلة بشرية، لكنّها تحكي بفرحٍ وشغف، بإيمانٍ ثابتٍ، تعرف أني أفتقده، وتردد دائماً بأن عادة ما يسبق الإيمان الراسخ مرحلة شكّ وتذبذب، قد تصل حد الإلحاد، لكنّها تتطلب قلباً نقياً ليصل، عادة ما تتخذ من صلاة الفجر علامة رضا من الله عليّ، ولذلك ربما توبخني كثيراً هذه الأيام..
أمي أكثر طيبة مما ينبغي، ولا زلت أنظر إلى صورتها أمامي وأتساءل، كيف يمكن أن تبدو بهذا الخجل حتى في الخمسين؟
أستيقظ منزعجة، أحلامي عادت إلى فوضاها المعتادة، الأماكن الغريبة والأشخاص الأكثر غرابة، العيون المحدقة دون داعٍ، دون نية محددة، السلالم والصحراء والرائحة المألوفة، ثم الإنتباه على صوتٍ يعيدك إلى الواقع، فيتبخر كلّ شئ ولا يترسب سوى انزعاج يصاحبك طيلة اليوم، تعتقد صديقة أن أرواحنا تسافر حين نحلم، وعن تجربتها الشخصية حين شعرت وهي تستيقظ كأنها تسقط من الأعلى إلى جسدها المستلقي، فازداد إيمانها بأن الأرواح تجد طريقها الخاص وتلتقي، لكنّي توقفت عن التصديق بتلك النظرية، فأحلامي ممتلئة بالعبث، والظلام، ولا أحب أن أفكر أن روحي تستهوي الأماكن السيئة فقط.
تتردد أغنية قديمة في رأسي، but you didn't have to cut me off, make it like it never happened and we' were nothing، أرددها وأنا ألعن لا وعيي لأنه يصر على قذف إدراكي بحقائق لا رغبة لي في إدراكها، مرّ أكثر من عام منذ أن سمعت هذه الأغنية بالذات، لكنّها عادت من اللاشئ هذا الصباح، أستسلم للإيقاع وأصطحب عقلي في نزهة قصيرة إلى خزانة "الحاجات اللي المفروض نتجاهلها"، نعيد تنظيم المكان، نتذكّر لبضع دقائق، ثم نغلقها كما كانت، أربت على كتف عقلي وأردد "ياريت تتهد بقى"، فيقف للحظة، ثم يضغط باستفزاز على زرار الـ replay، فتعاد الأغنية من البداية: now and then I think of when we were together..
and it keeps getting worse..
أتساءل، هل تلك الرعشة التي أصابت ركبتي فجأة هي تعبير داخليّ عن الغضب؟ أنظر إلى الطفلة النائمة في هدوء وأبتسم، لماذا لا نظل هكذا؟ نلعب الغميضة مع الملائكة ونبكي حين نجوع، ولا تتجاوز احتياجاتنا حد النوم والمداعبة، أدرك أن ذلك السؤال قتل بحثاً، دون إجابة مرضية، بل إن أكثر من يسألون مثل تلك الأسئلة يثيرون الشفقة، لقد صرنا أكبر وانتهى الأمر، أدرك أن حالتي تزداد سوءاً فأكتفي بالصمت والتساؤل، هل تلك الرعشة التي أصابت ركبتي فجأة هي نذير انهيار وشيك؟
أعود قبيل المغرب، أنتهي من الكثير من الأشياء فيعاود الظهور من جديد، أحاول أن أتذكر أشياء جديدة وأنا أدير مفتاح الباب بحرصٍ كي يعود إلى مكانه الخلفيّ في الذاكرة، عليّ أن أسقي نباتاتي، أتحدث إلى إحدى صديقاتي، أشاهد بعض حلقات هاوس، وأقرأ القرآن، أمي توبخني لأني لا أستيقظ لصلاة الفجر، عليّ أن أقترب أكثر، سأشاهد غروب الشمس من الشرفة، السماء زرقاء صافية، وقرب ، الأرض يتحول اللون إلى الرماديّ، كنت سأعتبر هذا غضبّ إلهي لولا أني أعرف تماماً أن ذلك الرماد هو احتراق وقود سيارات تملأ تلك المدينة، ودخان سجائر تنفث الغضب، وأنفاس تحترق، سأكتب شيئاً ما أيضاً، أذكر فيه كلّ ماحدث اليوم، وأذكر فيه تلك السماء وذلك اللون القاتم، سأحرص ألا أتطرق إلى الحديث عن ذلك الشئ الملقى في الخلف، والذي يستنفذ مني محاولات الهرب اليومية، ويبقى هوّ، بإصرار، كإبرة دقيقة توخزني كلّما حاولت الضحك.