Drawing By Daniel F. Gerhartz
تركته يمضي .. لكن ليس قبل أن تستمتع ببعض الدفء الذي يمنحه وجوده .. ولو للحظاتٍ قصار ..
استعدت لتلك اللحظات طوالَ سنوات .. كانت تعيد تجيزاتها لاستقباله كل مرة بنفس الطريقة .. تكرر المشهد ذاته بكل تفاصيله الدقيقة .. تبتسم في شبه استسلام للدفء الذي لم تتمكن من التخلي عنه بعد .. ولا تقوى على سدل الستار ووضع كلمة النهاية بتركه يمضي .. ويذهب في طريقه بعيداً عنها ..
آهٍ كم كانت تكره الفقد .. وتكره أن تراه وهو يصفق ببرود لمشهد وداعٍ حزين أبى ألا تُختم حكايتها معه إلا به .. كانت تتمرد على النهاية .. وتهرب منها كلما اقتربت .. وتوهم نفسها بأن حكايتها لن تصير أبداً في عداد كان .. بل ستظل تعيشها بكل كيانها ووجدانها ومشاعرها وأحلامها .. ولن تترك أبداً للفقد فرصته في نزع الدفء منها .. أو تترك له فرصة في الرحيل .. !
وهاهي تعيد المشهد مرة أخرى .. تخفف من إضاءة الغرفة حتى تسمح لليل بالتسلل من النافذة .. وتدع للمطر فرصة في صنع سيمفونيته الخاصة .. تشعل بعض الشموع التي تمنح ظلالاً باهتة على الحائط وصورتهما المعلقة .. وتعطي ذلك اللون الهادئ الملائم تماماً ليلة وداعٍ مثالية .. تضع اسطوانة موسيقية لعازف اشتهر بإيقاعه الراقص الخافت .. تقف في المنتصف وتغمض عينيها في محاولة لمعرفة ما ينقص لاستكمال جوها الخاص .. يغيب وجهها المخملي الهادئ في شبه ابتسامة غامضة .. تجلس أمام المرآة وهي تتأمله .. بملامحها الدقيقة الصاخبة الجمال في هدوء رفيع .. تفرد شعرها الأسود وتصففه في أناة .. تسدله على ناحية واحدة تماماً كما يحب .. ترتدي قرطاً من اللؤلؤ يتناسب رونقه مع ثوبها السكري اللامع .. تضع بعضاً من عطر ثمين اشتراه لها في إحدى رحلاته إلى باريس .. تتلمس بأناملها الدقيقة رقبتها ووجهها فتشعر بأنها ملكة لم ينتبه إليها الزمن .. تنظر إلى صورتها المنعكسة في المرآة وتدرك أنها طوال تلك السنوات الماضية كانت تتجمل فقط لأجله .. ولأجله وحده !
حين يكتمل جوها الخاص مع ارتفاع صوت الموسيقى بداخلها .. تشعر برغبة في الرقص معه على إيقاعها الخافت .. تشعر بيده تمسك يدها .. بذراعيه تلتفان حولها .. تستسلم لحركته كالريشة تستلم لإيقاع النسمات الراقص .. تدور معه مغمضة العينين .. يلامس وجهها كتف قميصه الأبيض .. تعلو الموسيقى ويزداد ايقاعها شيئا فشيئا .. تشتم عطره فتبتسم .. تشعر بالهواء يلامسها فتعرف أنها لا تزال تدور معه .. تسمعه يهمس بشعر ويحدثها فلا تنتبه سوى للإيقاع المتزايد و ترتاح لصوته في أذنيها وحسب .. تضمه أكثر حتى تمتلئ بالدفء الذي يمنحه وجوده معها .. حين يزداد الإيقاع ويزداد دورانها معه تعرف أن المقطوعة على وشك الإنتهاء .. لم تتشبث به بشدة كما كانت تفعل .. بل استسلمت تماماً للدوران المتزايد رغم معرفتها بما سيحدث .. لم تخشَ الوقوع بسب الدوار هذه المرة .. بل تركت نفسها تتهاوى مستمتعة بشعور السقوط وبلذة التغلب على الخوف .. وزهو الإنتصار على الفقد ..
حين وصل إليها صوت المطر ينقر على النافذة عرفت أن رقصتهما انتهت .. وهي الآن لم تعد بحاجة أن تفتح عينيها بعد انتهاء الرقصة .. فهي تعرف تماماً أنها لن ترى سوى حقيقة افتقادها له .. لن ترى سوى صوره المبعثرة على وسادتها مع رسائله وكتاباته وأشعاره وأحلامه .. لن تشعر سوى بملمس قميصه وملابسه التي تركها لتذكرها بعطره دوماً .. لن تفتح عينيها حتى لا تهرب منهما تلك الدمعة الحبيسة أعواماً طوالا .. بل ستكتفي هذه المرة بالإبتسام .. وهي تتمتم بآخر كلمات قالها في رقصتهما تلك قبل أن يرحل : " سامحيني عزيزتي .. فهذه ليلتنا الأخيرة معاً .. " .
المشهد عبقرى , انا حسيت انى قاعد معاهم (:
ردحذفشكراً .. دايما جابر بخاطري كدة :D
ردحذف