لنتخيل المشهد ..
غرفة ذات جدران أربعة .. وباب
نافذة صغيرة تطل على حديقة ما .. تمتلئ بذلك الأخضر المعتاد .. أزهار مختلفة الألوان تفشل في إضفاء بهجة على ذلك اللون الأخضر القاتم ..
هذا ما تردد في نفسها وهي تقف أمام تلك النافذة .. الأخضر قاتم .. مخيف ..
ضوء الشمس يتسلل من النافذة ليقع على سرير منسق .. بملائة بلون الكريمة الهادي كلون الجدران .. وسادتان مزركشتان بألوان مبهجة ورسوم هادئة تعتليان السرير كعروسين في ليلة زفافهما ..
الغرفة خالية من الإضافات سوى صورة واحدة لفتاة في مقتبل العمر .. تبتسم
بينما ترمقها محتويات الغرفة بنظرة باردة ..
الفتاة نفسها .. تقف أمام النافذة نفسها .. ترى المشهد نفسه .. كل يوم
الحديقة والزهور والشمس والأفق المتسع وعيناها الهائمتان في أبعاد أخرى لأماكن لا نعرفها ..
بأثر لدمعة تملع بين الحين والآخر في عينيها .. فتضفي على لونهما العسلي بريقاً آخر ..
تفكر .. بصمت .. تلك هوايتها الوحيدة ..
" وراء كل امرأة تبكي رجل أحمق .. " .. لا تذكر بقية الجملة ولا أين قرأتها ولا تفهم منها سوى كلمة " أحمق "
تنتهي دائماً عند تلك الكلمة .. حين يرمقها بنظرة استسلام وعجز لا يطيقان اعتذار يتردد في نفسه وتأباه في ذات الوقت ..
تنتهي الحرب عند تلك الكلمة .. حين تنطقها شفتيها في غضب وعتاب وألم ..
ينتهي كل شئ .. السخط .. الوجع .. القسوة .. الحنان .. الجزع .. اليأس .. والحب
تنتهي الهدنة .. ويعم السلام .. وتعود مزهوة بانتصارها أخيراً بعد صبر وقنوط .. ويعود منهزماً يجر أذيال الخيبة والندم .. وتنزف جروح الجميع لتثبت أن تلك المعركة لا تميز بين منتصر ومنهزم .. وبأن الوجع واحد .. والخيبة في النهاية واحدة ..
تنتظر كل يوم .. أمام النافذة نفسها .. تطالع المشهد ذاته بلونه القاتم ..
تدق عقارب ساعتها بانتظام .. مضجر
تتفقدها بين الحين والآخر .. كروتين يقطع الملل ..
تخبر نفسها في كل ثانية ..
سيتذكرني .. ولو بعد حين ..
سيشتاق ..
و ربما يعود ..
..
لكن المشهد يظل بلونه القاتم ..
ولا تزال محاولات الزهور لإضفاء بعض البهجة .. فاشلة !
ــــ
البرج العاجي ..
يقنع نفسه أنه يتأمل .. يبحث عن السر الخفي للوجود
يطل على العالم من بعيد .. بنظرة نافرة
يختفي .. فقد تعلم فن الإختباء حتى صار يشتهيه ..
ينصب نفسه أميراً كل ليلة .. ويحتفل .. وحيداً
لا يهتم كثيراً .. أو قليلاً .. أحياناً لا يهتم على الإطلاق ..
يحب أن يصف نفسه بالجموح .. رغم أنه يرتعد خوفاً من المجهول ..
يصرخ أحياناً في كابوس مخيف لقيود تدمي أطرافه الأربعة .. ومفتاحها في فمه .. ويظل في فزع من أن يصرخ فيقع في الهاوية المظلمة من تحته أو أن يبتلعه خطئاً
ثم يضحك كثيراُ .. وكأن شيئاً لم يحدث ..
يحب أن يبقى نفسه متواضعاً .. خجولاً .. ليثير إعجاب نفسه بنفسه ..
فهو لم يعد يمتلك سواها ..
لا يبكي لأنها رحلت .. لكنه يبكي بمرارة لأجل قطته التي ماتت في ولادة متعسرة ..
لا يتألم لفقدها .. لكنه يتألم لشوكة دخلت في قدمه بدون قصد منها ..
لا يشكو عذابه وحيداً بدونها .. لكنه يشكو من برودة الجو .. من قسوته ..
لم يدعي يوماً بأنه يحبها .. هو يحب أخرى ..
لكنه يكره الوحدة .. ويلعنها أحياناً
فهو مخادع .. كذاب
لا يستحق سواها
هو فقط يقنع نفسه بأنه يتأمل .. يبحث عن سر الألم
يزهو بقلبه الذي لم يمسه وجع ..
يحتفل بمملكة من صنعه .. رعاياه أشباح بلا جسد
لكنه موقن تماماً أنه يحبها كما لم يحب ذاته تلك أبداً
بأن قلبه لا يزال ينبض .. لأنها أبداً لم تمت
لكنه يقنع نفسه بأنه يتأمل .. يبحث عن سر لا يعرفه
يطل على العالم من بعيد .. ليأتمنه عليها
يختفي معها .. فقد أتقن فن الإختباء تحت سطوة حب متملك حتى صار يشتهيه
ينصبها أميرة على مملكة ذاته كل ليلة .. ثم يبكي .. وحيداً !
:( :(
ردحذف