2014-08-30

تمرين كتابي - 4


لا شئ يبدو مهماً بالنسبة له، فقد كلّ أسنانه، وارى زوجته التراب، وبقى وحده في دارِ للمسنين، يلعب كلّ يوم طاولة ودومينو مع باقي النزلاء، يعجز فجأة عن تذكر أي يوم من الأسبوع هو، لكنّه يظل يكتب الشعر ويتندر بأن أحمد رامي  سيموت كمداً حين يقرأ قصائده العبقرية، زاره أحد أبنائه ذات مرّة، ترك للدار بعض النقود الباردة، قبّله على رأسه ومضى، يتحدث كثيراً بالمناسبة، لا يمكنك أن تتخلص من أفكاره التي تندفع رغماً عنه طلباً للصحبة، يكره الوحدة والملل، ولذلك ربما لا يمتلك مسبحة كباقي العجائز يعد بها الدقائق بانتظار الموت، بل إنه يخرج أحياناً دون علمهم ليعاكس البنات الحلوة في الشارع، يشتري بعض الزهور ويجلس بانتظار حافلة توصله إلى البحر، وحين يجدوه أخيراً، يضحك لأنه لم يعد يذكر أغنية وردة التي شغلت بها عبد الناصر وقت النكسة، ويظل يعدد معهم أسماء من ماتوا في كتيبته، وكيف أنه استطاع أن يباغت العدو بطلقة اخترقت رأسه وقلبه في آن واحد، الكثير من الخطوط ترتسم على وجهه حين يضحك دون داعٍ، وشيب رأسه يزداد بياضاً حين يغازل الممرضة ويطلب منها أن تطفئ الأنوار لأنه يحب أن يبكي دون أن يراه أحد، ثم يعاتبها لأنها أطاعته وهي تعرف أنه يكره الظلام. 

الله كبير، ترددها فيروز في حلاوة، فتهتز رأسها وهي تدندن معها في راحة، لا تزال جميلة، شعرها بني قصير، وعيناها ناعسة دائماً، ترتدي بيجامة مفتوحة لتسمح للهواء بملاطفة جسدها الأبيض، تتذكر حين كانت تقف عاجزة عن الحركة والحياة، الغرفة المظلمة الضيقة، البكاء اليومي، الطعام القليل والشاب الذي كانت تحبّه صمتاً وخذلها، الجامعة ومحاولات إيجاد عمل، أبوها الغاضب وزوجة أبيها الماكرة، المشي الطويل لتخفيف الحزن والوجع، تذكر كلّ ذلك وتضحك، تقف في شرفة صغيرة، تطل على شارعٍ محدود، خالٍ من الضجيج رغم امتلاءه بالناس، بائعوا الونس والخضار، عربة الفول الصباحية، وأطفال يحاولون الإمساك بكرة صغيرة تفلت من أرجلهم دائماً، تمتلك طفلين، وزوج قصير، وراديو يبث أغنيات لفيروز دون انقطاع، يحبّها كثيراً أيضاً، ويحب أن يقبلها كلّ مرة تصنع فيها كوباً من الشاي المثاليّ، وتحب أن تجلس عند قدميه في دلال، تتنائر الصور على حائطٍ بالداخل ممتلئ بالوجوه الباسمة، تسميه حائط السعادة، وتعلق في منتصفه آية كتبت بخطٍ كبير منمّق، تسقط عليها الشمس عصراً فتزداد جمالاً، تقرأها كلّ يوم سراً فيمتلئ قلبها بنورٍ خفيّ، نور لا يراه إلا من يعرف أنه "وإن تَعُّدّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا".

"تفتكر احنا ممكن نطير من غير ما نقع؟"، ينظر إليها، تلك التي لا تكف عن الأسئلة، فتجبره على التفكير في إجابة دائماً، إجابة غير منطقية لكنّها كافية لجعلها تسأل سؤالاً آخر، لم يكن يعرف أن يختبئ كلّ ذلك الحزن بداخلها، لكنّه يعرف أنه في نوبات البكاء العصبي القادمة سيمسك يدها ولن يرتبك، لن يبكِ، أو يسأل بعصبية "بتعملي ف نفسك كده ليه"، ينتبه إلى الطريق أمامه، يزيد من السرعة فيصطدم الهواء بوجهها المستند إلى النافذة، تغمض عينيها وتبتسم، يرى ابتسامتها فيسير بسرعة أكبر، لا يفكر، لا تتحرك أي إشارة في دماغه لتوقفه عن جنونه، لا شئ، هو فقط يتمسك بتلك اللحظة الصغيرة لتدوم أطول وقتٍ ممكن، يزيد من السرعة تلك المرة ليحاول الطيران فعلاً، يعرف أن احتمال الصدام وشيك، وبأن حادثة سيئة قد تقع، لكنه لا يهتم، يقفز إلى ذهنه سؤال أخير "هو احنا مينفعش لما نقع، نقع لفوق؟" يصطدم الهواء برأسه، يتخلل شعره القصير، يسري في أنفاسه الساخنة فيمتلئ بالضحك، يضحك حتى تدمع عيناه، فيتوقف، يحتضن يدها بين كفية، فتحركهما ببطء، ليصلا إلى شفتيها بهدوء، يتوقف الزمن دائماً هُنا، وهنا فقط، عند شفتيها، وللمرةِ الأولى يعرف أخيراً إجابة السؤال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

:)

This title was intentionally left blank.

صديقي الأزرق الصغير، ألم تتلاشى بعد؟ أخبرني كيف كان نهارُك بعد تلك الليلة المضنية؟ ألا تزال ترفع عينيك إلى السماء و تصرخ بغضب؟ أعرف....