لأني أتقن فن التجاهل .. مع الأشخاص والأشياء والذكريات
لست أنتمي إلى هنا .. ولا إلى هناك .. ولا إلى أي مكان .. هكذا أخبرني وهو يرسم ابتسامة إعجاب صادقة على وجهه .. قال أني أنتمي إلى مكان آخر .. ولذلك صنعت من عجينة مختلفة تماماً .. لا أشبه أحداً قابله من قبل .. أكمل في سعادة وهو يخبرني بأنه قرر أن يتبناني حتى بعد تخرجي .. أخبرني أنه يريد أن يشرف على دراستي ويرى توجهاتي ويساعدني لكي أصل إلى مكاني الذي ينبغي أن أكون فيه .. كنت أستمع منصتة ومبتسمة .. مأخوذة بما يقول تارة وتارة أخرى متعجبة بسخرية من مقولته بأني أنتمي لمكان آخر .. ذلك المكان الغامض الذي لا أعرفه .. أو ربما أعرفه ولكني .. كالعادة .. لأني أتقن فن التجاهل .. أتجاهله .. !
أخبرته بحزن ذات مرة بأني لا رغبة لدي في الحديث عن الأمر مطلقاً .. لأني أعتبره منتهياً ولا رغبة لدي في فتح تلك الأبواب التي جاهدت لإغلاقها بإحكام دون أدنى رغبة في تذكر ما يكمن وراءها .. أخبرني بلغة طبيب متمكن بأننا أحياناً كي نعالج الجرح الغائر علينا أن نفتحه ونخرج ما استكان فيه من تلوث ومرض ليشفى تماماً .. أخبرته أني أحياناً أشعر بأني لا أتقن سوى فن التجاهل .. وبأن تلك الأبواب رغم إغلاقي لها بإحكام إلا وأنها تفتح بين الحين والآخر رغماً عني مع كل لمحة عابرة للذكريات .. وبأني دائماً وأبداً أرى ما يكمن وراء تلك الأبواب في حلم متكرر أو فكرة مؤرقة .. وبأني دوماً وأبداً أكره تلك الأيام السوداء ولا زلت مصرة على إغلاقها بإحكام .. !
لأني أجيد فن الهروب .. من الأفكار والمواقف والشعور
وأجيد فن الإختباء .. كنت ألعب الغميضة مع عقلي كلما حاول أن يصل بتفكيره إلى حل للمشكلة .. إلى سبيل خلاص من سجني الذي وضعت نفسي فيه .. أضحك حينها وأعد إلى العشرة .. وبعدها أختفي تماماً .. أتلاشى في الفوضى والزحام .. أي زحام .. وأي فوضى .. وأي إزعاج .. لا يهم .. المهم ألا يجد عقلي الفرصة ليبحث عني .. وأن أصل إلى حائط النسيان لألمسه بيدي وأعلن انتصاري على عقلي قبل أن يساعده الحظ ويجدني .. وحينها أكون قد خسرت .. ولا زلت إلى اليوم .. أختبئ .. وأكسب اللعبة !
لأني أكره الهزيمة .. حتى ولو في لعبة تافهة ..
أغضب كثيراً .. من نفسي أولاً وأخيراً .. لأني لم أكن جيدة كفاية لأفوز باللعبة .. لأني لست مثل إخوتي في قوتهم لأصد الكرة حين تصل إلى منطقتي .. لأني لست بالذكاء الكافي لأعرف عاصمة باكستان أو الصين .. لأني لست بالمكر الكافي لأفهم مكرها وأساليبها الملتوية .. لأني لست طويلة كفاية لتصل يدي إلى ما أرغب فيه .. لأني أغضب كثيراً لأمور تافهة تشعرني بالهزيمة أمام أمور أكثر تفاهة .. لم أعتد بعد على فكرة واحدة .. ولم أتمكن من التخلص من أثرٍ سئ لسنة منقضية .. رغم أنها انقضت !
----
تجلس وحيدة على كرسي خشبي في مكان ما ..
الرياح هادئة .. لا شئ سوى نسمات خفيفة
الأشجار تستسلم للمستها السحرية ..
تبدو الشمس مرتاحة في عالمها الخاص
تطل على ذلك المكان في إشراق ..
مزاجها الرائق يمنح كل شئ تلمسه آشعتها رونقاً غريباً ..
زهور صغيرة بيضاء .. تتناثر هنا وهناك ..
من دونها قد لا يكتمل المنظر .. وجودها ضروري .. رغم صغرها
رغم قلة حيلتها ..
هي ..
قصيرة
لا تصل قدماها إلى الأرض .. تحركهما حركة منتظمة
كأنها تنتظر ..
أو ربما تتسلى ..
أو ربما .. لتصنع بصوت حركتها موسيقى لا يفهمها أحد سواها ..
لتشعر أنها مميزة في هذا العالم
مغمضة عينيها
تحتضن نفسها بذراعيها الصغيرين
كأنها تفتقد شيئاً ما
كأنها تتذكر لمسة حانية
كأنها تشعر بالدفء .. أو تريده
هي لا تبكي
فقد انتهى وقت البكاء
قد اختلفت الأوضاع
تحولت الأماكن
انزاحت السحب الكثيفة وراق للشمس أن تداعبها
فاستسلمت هي الأخرى لدفئها ..
لم تفتقد البرودة
ولا الرياح القاسية
ولا شالها القنطي الذي كان يحميها
لم تحزن على فقدانه ..
لن تتذكر لمسته الحانية
لن تطلب الدفء .. فلديها ما يكفى
على كرسي خشبي .. في مكان ما
تدندن بلحن تعرفه
لأغنية نسيت كلماتها ..
استمع لها كل من في المكان ..
الأشجار والشمس والنسمات الهادئة والزهور قليلة الحيلة التي لا يكتمل بدونها المنظر ..
وللحظة .. لم تعد كما كانت
لم تعد وحيدة .