2015-03-25

كل حاجة؟

صديقي العابس منذ الصباح، كلّ حاجة بتعدّي. هكذا قالت بشبه ابتسامة بعد أن أنهت وصفها لليلة سيئة.
تذكرتُ ذلك اليوم وأنا أبكي بهستيريا، أغمض عيني وأنتحب بصوت عال، تجلس أمي أمامي فاقدة الحيلة، محاولة أن تخفف ألمي، تعرف أن طبيب الأسنان كان أحمقاً وتعرف أني أتألم، لكنها لم ترَ ذلك الذي كاد يتهاوى من الجزع بداخلي، ولم تعرف السبب.
شعرت للحظة يا صديقي أن البكاء لن يتوقف أبداً، ورويداً رويداً بدأ ذلك السكون يتسلل إلي، أجبرت نفسي على الهدوء، وصنعت بمهارة قشرة سميكة من الثلج أتت على كل ما كان يشتعل منذ قليل، وأخمدته، بتلك البساطة.
أغمضت عيني المحترقة، حاولتُ ضبط أنفاسي المتلاحقة، تذكرتُ منذ ثلاث سنوات حين كان بكائي يتسبب في أنفاس متسارعة ومتتالية، يتبعها خدر وتنميل في فمي وأنفي، ونصف ذراعاي، تظهر نقاط سوداء في عيني وأكاد أسقط، منحني الطب تفسيراً منطقياً لكل ذلك، تذكرتُ وأشفقت على أمي أن ترني في تلك الحالة مرة أخرى، فهدأت.
كلّ حاجة بتعدي، رددتُ حين كانت أمي تقبل رأسي وتعتذر عن كل ما حدث، وتطلب مني مراراً أن أضعه على صدرها، أن أتركه بين يديها، أن أدع كل التفاصيل التي أزعجتني اليوم بداخلها لتبددها هي عني، أكرهني كلّ يوم لأني لستُ بالقوة الكافية التي تجعلني أتماسك أمامها، وأبكي بصمت، دون أن تعرف، دون أن أضطر لسماعها وهي تقول "قلبي ينفطر" لأجلي.
أعرف أن أمي قوية، توفيت جدتي وهي في الإعدادية، وتزوجت أكبر أخواتها مبكراً، فتكفلت هي بأعمال المنزل والعناية بخالي الأصغر، تزوج جدي من أخرى، ولم يكن يهتم سوى بأعمال الفلاحة وصلاة الفجر حاضراً في مسجد قريب، بينما اضطرت هي للتعامل مع زوجة أبٍ قاسية وأعباء حياةٍ لم تطلبها، قُدمت إليها باكراً.
ظلت وحيدة، حتى بعد تخرجها، وأثناء عملها في مصر كما كانوا يطلقون على القاهرة قديماً، كانت تخبرني ذات يومٍ بأنها حين كانت تشعر بالحزن كان تشتري شيئاً جميلاً لها، أي شئ، وتعود سعيدة، تذكرتني وأنا أشتري أصيصات الزهور والأقلام والورق الملوّن في كلّ مرة شعرت بثقل الحياة فوق كاهلي، وعرفتُ من أين أتت تلك المحاولات، لكنّي لم أنل منها نصف قوتها، ولا صفاء عينيها الصغيرتين.
تزوجَت أبي، لا أعرف كيف، وتشعر بالخجل حين تذكر التفاصيل، لكنّي كنت أعبث ذات يومٍ بصندوق شرائط تسجيلٍ قديمة، ووجدتُ واحداً كُتب عليه :"إلى زوجتي الحبيبة"، سألتها عنه، فاحمر وجهها وأخذته، ولم تتركه لأحد كي يسمعه، في صندوق الصور القديمة أيضاً، أجد أبي وهو يحملها وسط حقل واسع، وهي تضحك بشده، وبخجل، وأخرى في اليوم نفسه وهي تجلس على جذعٍ لشجرة قديمة وأبي يجلس قبالتها، كانوا سعداء هُنا، رغم ما تبع تلك الأيام من مشقة وعناء.
أمي حين تراني أبكي، تطلب مني أن أكون قوية مثلها، أعرف أني هشة، لستُ أمتلك تلك الشجاعة التي تجعل امرأة وحيدة مثلها تسلك درباً يخصها، وتعبر كل ما كان يقابلها من عقبات دون أن تبكي، كانت صلبة، ولا تزال، لم أرها تبكِ إلا في مراتٍ أذكرها بالتحديد، لا تتجاوز الأصابع، حين توفي جدّي، وجدتي، حين كنتُ مريضةً، وحين غاب أخي عن المنزل ليلةً واحدة، وحين أبكي دون أن تفلح محاولاتها للتهدئة.
عدا ذلك، تصمت، وتترك الأمور لتأخذ وقتها كما تحب، فهي تعرف أن كلّ حاجة بتعدي.
كل حاجة بتعدي يا صديقي، كل حاجة بتعدي يا ضحى.


هناك تعليق واحد:

  1. يا ضحى :))
    انت اقرب اسلوب ل كتابتي .. مابنعرفش نقول او نكتب كل اللى احنا حاسيين بيه بس بنكتفي ب شويه شخابيط تقول جزء من الحقيقه و كفى !!
    انا بحب اجي هنا بجد :))

    ردحذف

:)

This title was intentionally left blank.

صديقي الأزرق الصغير، ألم تتلاشى بعد؟ أخبرني كيف كان نهارُك بعد تلك الليلة المضنية؟ ألا تزال ترفع عينيك إلى السماء و تصرخ بغضب؟ أعرف....